فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن كثير:

وأحسن ما قيل فيه الذي قدمناه، وهو الذي نص عليه محمد بن إسحاق بن يسار، رحمه الله، حيث قال: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} فيهن حجة الرب، وعصمة العباد، ودفع الخصوم والباطل، ليس لهن تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه.
قال: والمتشابهات في الصدق، لهن تصريف وتحريف وتأويل، ابتلى الله فيهن العباد، كما ابتلاهم في الحلال والحرام ألا يصرفن إلى الباطل، ولا يحرّفن عن الحق.
ولهذا قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} أي: ضلال وخروج عن الحق إلى الباطل {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} أي: إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرّفوه إلى مقاصدهم الفاسدة، وينزلوه عليها، لاحتمال لفظه لما يصرفونه فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه؛ لأنه دامغ لهم وحجة عليهم، ولهذا قال: {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} أي: الإضلال لأتباعهم، إيهامًا لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن، وهذا حجة عليهم لا لهم، كما لو احتج النصارى بأن القرآن قد نطق بأن عيسى هو روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم، وتركوا الاحتجاج بقوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} [الزخرف: 59] وبقوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59] وغير ذلك من الآيات المحكمة المصرحة بأنه خلق من مخلوقات الله، وعبد، ورسول من رسل الله. اهـ.

.قال القرطبي:

اختلف العلماء في المحكمات والمتشابهات على أقوال عديدة، فقال جابر بن عبد الله، وهو مقتضى قول الشعبي وسفيان الثوري وغيرهما: المحكمات من آي القرآن ما عرِف تأويله وفهم معناه وتفسيره.
والمتشابه ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل مما استأثر الله تعالى بعلمه دون خلقه.
قال بعضهم: وذلك مِثل وقت قيام الساعة، وخروج يأجوج ومأجوج والدجال وعيسى، ونحو الحروف المقطعة في أوائل السور.
قلت: هذا أحسن ما قيل في المتشابه.
وقد قدّمنا في أوائل سورة البقرة عن الربيع بن خيثم أنّ الله تعالى أنزل القرآن فاستأثر منه بعلم ما شاء؛ الحديث.
وقال أبو عثمان؛ المحكم فاتحة الكتاب التي لا تجزئ الصلاة إلا بها.
وقال محمد بن الفضل: سورة الإخلاص، لأنه ليس فيها إلا التوحيد فقط.
وقد قيل: القرأن كله محكم: لقوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1] وقيل: كله متشابه؛ لقوله: {كِتَابًا مُّتَشَابِهًا} [الزمر: 23].
قلت: وليس هذا من معنى الآية في شيء؛ فإن قوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1] أي في النظم والرصْف وأنه حق من عند الله.
ومعنى {كتابًا مُتَشَابِهًا}، أي يشبه بعضه بعضا ويصدق بعضه بعضا.
وليس المراد بقوله: {آيَاتٌ مُحُكَمَاتٌ} {وأُخَرُ مُتَشَابِهاتٌ} هذا المعنى؛ وإنما المتشابه في هذه الآية من باب الاحتمال والاشتباه، من قوله: {إِنَّ البقر تَشَابَهَ عَلَيْنَا} [البقرة: 70] أي التبس علينا، أي يحتمل أنواعًا كثيرة من البقر.
والمراد بالمحكم ما في مقابلة هذا، وهو ما لا التباس فيه ولا يحتمل إلا وجها واحدًا.
وقيل: إن المتشابه ما يحتمل وجوها، ثم إذا رُدَّتْ الوجوه إلى وجه واحد وأبطِل الباقي صار المتشابه محكمًا.
فالمحكم أبدًا أصل تردّ إليه الفروع، والمتشابه هو الفرع.
وقال ابن عباس: المحكمات هو قوله في سورة الأنعام {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151] إلى ثلاث آيات، وقوله في بني إسرائيل {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَانًا} [الإسراء: 23] قال ابن عطية: وهذا عندي مثال أعطاه في المحكمات.
وقال ابن عباس أيضا؛ المحكمات ناسخه وحرامه وفرائضه وما يؤمن به ويعمل به، والمتشابهات المنسوخات ومقدّمه ومؤخّره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به، وقال ابن مسعود وغيره: المحكمات الناسخات، والمتشابهات المنسوخات، وقاله قتادة والربيع والضحاك.
وقال محمد بن جعفر بن الزبير: المحكمات هي التي فيها حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخُصُوم والباطل، ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه.
والمتشابهات لهنّ تصريف وتحريف وتأويل، ابتلى الله فيهنّ العباد؛ وقاله مجاهد وابن إسحاق.
قال ابن عطية: وهذا أحسن الأقوال في هذه الآية.
قال النحاس: أحسن ما قيل في المحكمات، والمتشابهات أنّ المحكمات ما كان قائمًا بنفسه لا يحتاج أن يرجع فيه إلى غيره؛ نحو: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ} [طه: 82] والمتشابهات نحو: {إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعًا} [الزمر: 53] يرجع فيه إلى قوله جل وعلا: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ} [طه: 82] وإلى قوله عز وجل؛ {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48].
قلت: ما قاله النحاس يبين ما اختاره ابن عطية، وهو الجاري على وَضْع اللسان؛ وذلك أن المحْكَم آسم مفعول من أحْكِم، والإحكام الإتْقان؛ ولا شك في أن ما كان واضح المعنى لا إشكال فيه ولا تردد، إنما يكون كذلك لوضوح مفردات كلماته وإتقان تركيبها؛ ومتى اختل أحد الأمرين جاء التشابه والإشكال. والله أعلم.
وقال ابن خويزِمَنْدَاد: للمتشابه وجوهٌ، والذي يتعلق به الحكم ما اختلف فيه العلماء أيّ الآيتين نسخت الأُخرى؛ كقول عليّ وابن عباس في الحامل المتوفى عنها زوجها تعتدّ أقْصَى الأجلين.
فكان عمر وزيد بن ثابت وابن مسعود وغيرهم يقولون وضع الحمل، ويقولون: سورة النساء القصرى نسختْ أربعة أشهر وعَشْرًا.
وكان عليّ وابن عباس يقولان لم تنسخ.
وكاختلافهم في الوصية للوارث هل نُسخت أم لم تُنْسَخ.
وكتعارض الآيتين أيهما أولى أن تقدّم إذا لم يعرف النسخ ولم توجد شرائطه؛ كقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] يقتضي الجمع بين الأقارب من مِلك اليمين، وقوله تعالى: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23] يمنع ذلك.
ومنه أيضا تعارض الأخبار عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وتعارض الأقْيسَة، فذلك المتشابه.
وليس من المتشابه أن تقرأ الآية بقراءتين ويكون الاسم محتملًا أو مجملًا يحتاج إلى تفسير؛ لأن الواجب منه قدر ما يتناوله الاسم أو جميعه.
والقراءتان كالآيتين يجب العمل بموجبهما جميعًا؛ كما قرئ: {وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] بالفتح والكسر، على ما يأتي بيانه في المائدة إن شاء الله تعالى. اهـ.

.قال الفخر:

في حكاية أقوال الناس في المحكم والمتشابه فالأول: ما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: المحكمات هي الثلاث آيات التي في سورة الأنعام {قُلْ تَعَالَوْا} [الأنعام: 151] إلى آخر الآيات الثلاث، والمتشابهات هي التي تشابهت على اليهود، وهي أسماء حروف الهجاء المذكور في أوائل السور، وذلك أنهم أولوها على حساب الجمل فطلبوا أن يستخرجوا منها مدة بقاء هذه الأمة فاختلط الأمر عليهم واشتبه، وأقول: التكاليف الواردة من الله تعالى تنقسم إلى قسمين منها ما لا يجوز أن يتغير بشرع وشرع، وذلك كالأمر بطاعة الله تعالى، والاحتراز عن الظلم والكذب والجهل وقتل النفس بغير حق، ومنها ما يختلف بشرع وشرع كأعداد الصلوات ومقادير الزكوات وشرائط البيع والنكاح وغير ذلك، فالقسم الأول هو المسمى بالمحكم عند ابن عباس، لأن الآيات الثلاث في سورة الأنعام مشتملة على هذا القسم.
وأما المتشابه فهو الذي سميناه بالمجمل، وهو ما يكون دلالة اللفظ بالنسبة إليه وإلى غيره على السوية، فإن دلالة هذه الألفاظ على جميع الوجوه التي تفسر هذه الألفاظ بها على السوية لا بدليل منفصل على ما لخصناه في أول سورة البقرة.
القول الثاني: وهو أيضا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المحكم هو الناسخ، والمتشابه هو المنسوخ.
والقول الثالث: قال الأصم: المحكم هو الذي يكون دليله واضحًا لائحًا، مثل ما أخبر الله تعالى به من إنشاء الخلق في قوله تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً} [المؤمنون: 14] وقوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شيء حَىّ} [الأنبياء: 30] وقوله: {وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقًا لَّكُمْ} [البقرة: 22] والمتشابه ما يحتاج في معرفته إلى التدبر والتأمل نحو الحكم بأنه تعالى يبعثهم بعد أن صاروا ترابًا ولو تأملوا لصار المتشابه عندهم محكمًا لأن من قدر على الإنشاء أو لا قدر على الإعادة ثانيًا.
واعلم أن كلام الأصم غير ملخص، فإنه إن عنى بقوله: المحكم ما يكون دلائله واضحة أن المحكم هو الذي يكون دلالة لفظه على معناه متعينة راجحة، والمتشابه ما لا يكون كذلك، وهو إما المجمل المتساوي، أو المؤول المرجوح، فهذا هو الذي ذكرناه أولًا، وإن عنى به أن المحكم هو الذي يعرف صحة معناه من غير دليل، فيصير المحكم على قوله ما يعلم صحته بضرورة العقل، والمتشابه ما يعلم صحته بدليل العقل، وعلى هذا يصير جملة القرآن متشابهًا، لأن قوله: {فَخَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً} أمر يحتاج في معرفة صحته إلى الدلائل العقلية، وإن أهل الطبيعة يقولون: السبب في ذلك الطبائع والفصول، أو تأثيرات الكواكب، وتركيبات العناصر وامتزاجاتها، فكما أن إثبات الحشر والنشر مفتقر إلى الدليل، فكذلك إسناد هذه الحوادث إلى الله تعالى مفتقر إلى الدليل، ولعلّ الأصم يقول: هذه الأشياء وإن كانت كلها مفتقرة إلى الدليل، إلا أنها تنقسم إلى ما يكون الدليل فيه ظاهرًا بحيث تكون مقدماته قليلة مرتبة مبينة يؤمن الغلط معها إلا نادرًا، ومنها ما يكون الدليل فيه خفيًا كثير المقدمات غير مرتبة فالقسم الأول: هو المحكم والثاني: هو المتشابه.
القول الرابع: أن كل ما أمكن تحصيل العلم به سواء كان ذلك بدليل جلي، أو بدليل خفي، فذاك هو المحكم، وكل ما لا سبيل إلى معرفته فذاك هو المتشابه، وذلك كالعلم بوقت قيام الساعة، والعلم بمقادير الثواب والعقاب في حق المكلفين، ونظيره قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مرساها} [الأعراف: 187] [النازعات: 42]. اهـ.

.قال القرطبي:

روى البخاريّ عن سعيد بن جبير قال: قال رجل لابن عباس: إني أجد في القرآن أشياءَ تختلفُ عليّ.
قال: ما هو؟ قال: {فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101] وقال: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات: 27] وقال: {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثًا} [النساء: 42] وقال: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] فقد كتموا في هذه الآية.
وفي النازعات {أَمِ السماء بَنَاهَا} {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 27 30] فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض، ثم قال: {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ ثُمَّ استوى إِلَى السماء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 9 11] فذكر في هذا خلق الأرض قبل خلق السماء.
وقال: {وَكَانَ الله غَفُورًا رَّحِيمًا} [الفتح: 14].
{وَكَانَ الله عَزِيزًا حَكِيمًا} [الفتح: 7].
{وَكَانَ الله سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 134] فكأنه كان ثم مضى.
فقال ابن عباس: {فَلاَ أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} في النفخة الأولى، ثم ينفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون؛ ثم في النفخة الآخرة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون.
وأمّا قوله: {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثًا} فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم، وقال المشركون: تعالوا نقول: لم نكن مشركين؛ فختم الله على أفواههم فتنطق جوارحهم بأعمالهم؛ فعند ذلك عرف أن الله لا يكتم حديثًا، وعنده يودّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين.
وخلق الله الأرض في يومين، ثم استوى إلى السماء فسوّاهن سبع سماوات في يومين، ثم دحا الأرض أي بسطها فأخرج منها الماء والمرعى، وخلق فيها الجبال والأشجار والآكام وما بينها في يومين آخرين؛ فذلك قوله: {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30].
فخلقت الأرض وما فيها في أربعة أيام، وخلقت السماء في يومين.
وقوله: {وَكَانَ الله غَفُورًا رَّحِيمًا} يعني نفسه ذلك، أي لم يزل ولا يزال كذلك؛ فإن الله لم يرِد شيئًا إلا أصاب به الذي أراد.
ويحك! فلا يختلِف عليك القرآن؛ فإن كلا من عند الله. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أن من الملحدة من طعن في القرأن لاجل اشتماله على المتشابهات، وقال: إنكم تقولون إن تكاليف الخلق مرتبطة بهذا القرآن إلى قيام الساعة، ثم إنا نراه بحيث يتمسك به كل صاحب مذهب على مذهبه، فالجبري يتمسك بآيات الجبر، كقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءَاذَانِهِمْ وَقْرًا} [الأنعام: 25] والقدري يقول: بل هذا مذهب الكفار، بدليل أنه تعالى حكى ذلك عن الكفار في معرض الذم لهم في قوله: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ} [فصلت: 5] وفي موضع آخر {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [البقرة: 88] وأيضا مثبت الرؤية يتمسك بقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23] والنافي يتمسك بقوله: {لاَ تُدْرِكُهُ الأبصار} [الأنعام: 103] ومثبت الجهة يتمسك بقوله: {يخافون رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ} [النحل: 50] وبقوله: {الرحمن عَلَى العرش استوى} [طه: 5] والنافي يتمسك بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَئ} [الشورى: 11] ثم إن كل واحد يسمي الآيات الموافقة لمذهبه: محكمة، والآيات المخالفة لمذهبه: متشابهة وربما آل الأمر في ترجيح بعضها على بعض إلى ترجيحات خفية، ووجوه ضعيفة، فكيف يليق بالحكيم أن يجعل الكتاب الذي هو المرجوع إليه في كل الدين إلى قيام الساعة هكذا، أليس أنه لو جعله ظاهرًا جليًا نقيًا عن هذه المتشابهات كان أقرب إلى حصول الغرض.
واعلم أن العلماء ذكروا في فوائد المتشابهات وجوهًا:
الوجه الأول: أنه متى كانت المتشابهات موجودة، كان الوصول إلى الحق أصعب وأشق وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب، قال الله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جاهدوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصابرين} [آل عمران: 142].
الوجه الثاني: لو كان القرآن محكمًا بالكلية لما كان مطابقًا إلا لمذهب واحد، وكان تصريحه مبطلًا لكل ما سوى ذلك المذهب، وذلك مما ينفر أرباب المذاهب عن قبوله وعن النظر فيه، فالانتفاع به إنما حصل لما كان مشتملًا على المحكم وعلى المتشابه، فحينئذ يطمع صاحب كل مذهب أن يجد فيه ما يقوي مذهبه، ويؤثر مقالته، فحينئذ ينظر فيه جميع أرباب المذاهب، ويجتهد في التأمل فيه كل صاحب مذهب، فإذا بالغوا في ذلك صارت المحكمات مفسرة للمتشابهات، فبهذا الطريق يتخلص المبطل عن باطله ويصل إلى الحق.